فؤاد شردودي: الكتابة والرسم فعلان إبداعيان متكاملان

يؤكد المبدع المغربي فؤاد شردودي على عدم وجود حدود فاصلة بين الشعر والرسم، ولذلك فهو يعيشهما معا بالشغف نفسه، ويمنحهما العشق ذاته.
عضو الهيئة التنفيذية لبيت الشعر في المغرب، صدرت له دواوين عدة: ماسكًا ذيل كوكب، السماء تغادر المحطة، من باب الاحتياط، أنا غير مسخر. ومثلما وقع الاحتفاء بشعره، نالت أعماله التشكيلية التكريم والتتويج في أكثر من مناسبه، من بينها على سبيل المثال لا الحصر: الجائزة الأولى لبيينالي الفنانين العرب في الكويت.
حول تجربته الإبداعية، أجرت معه “القدس العربي” الحوار التالي:

ـ أنت تجمع بين الشعر والتشكيل، أيهما كان أسبق لديك؟ احك لنا قصة بداية محاورتك للحرف والصورة الشعرية ومداعبتك للألوان؟
ـ قد يكون من الصعب جدا الإمساك بالبدايات في حالتي هاته، ذلك لأني لم أجد فعل شيء آخر في حياتي، كنت منذ وعيي المبكر أصغي لتلك الصرخات القادمة من داخل الروح، والتي ينتهي بها المطاف على شكل رسومات أو كتابات. وإن كان لا بد من تلمس رأس الخيط فإنني أذكر أن اهتمام رجال تعليم درسوني في الأقسام الابتدائية الأولى، جعلني أدرك أن ما أقوم به في البيت وحيدا يكتسي أهمية ما، وأن الرسم يجعلني مختلفا. أذكر هنا اهتمام خالي المبدع في مجال الموسيقى مصطفى عاصم الدين الذي كان يرعى من بعيد شغبي اللوني، فكان في كل زيارة للبيت يجلب لي معه علبة الألوان والأوراق الخاصة بالرسم، والمجلات المختصة. كل ذلك كان في زمن طفولي عابث، لكنه كان يبني فخاخا لأسئلة وجودية ستأتي فيما بعد. يقودها اكتشاف الكتابة والتفكير فيها. لقد كنت سعيدا ومحظوظا بوجود ثلة من المحيطين بي ممن سقوا نبتة الإبداع بداخلي وجعلوا منها شيئا ذا أهمية. على الأقل بالنسبة لي.

ـ وكيف تنظر إلى العلاقة بين التشكيل والشعر؟ هل تنجز اللوحة حينما لا تسعفك العبارة، والعكس صحيح: هل تكتب الشعر حين لا تسعفك الريشة؟
ـ دائما كنت أؤمن بأن الكتابة والرسم فعلان إبداعيان متكاملان، وفي داخلهما ما يجعلهما متماثلين إلى حد التطابق، فكلاهما يعتمد الصورة أساسا له، الصورة المتخيلة في القصيدة توازيها الصورة البصرية الإيحائية في اللوحة. وبذلك، فإنني لا أجيد تحديد المسافة بين الفعلين، لا أهرب من الكتابة إلى الرسم أو العكس، بل أعيش بينهما في ود تام، وأحيانا أقوم بهما في الوقت نفسه، مثلما يقول في إطار هذا التداخل فرناندو بوتيرو: “أبدأ كشاعر، فأضع الألوان والتكوين على القماش كرسام، لكنني أنهي عملي كنحات يأخذه السرور وهو يداعب الأشكال.”
كثيرا ما كتبت ورسمت في الوقت ذاته. ومن ثم، يبدو جليا لكل مهتم أن الأسئلة ذاتها التي تسكنني في اللوحة تسكنني في القصيدة أيضا، ولعلها أسئلة من داخل الممارسة الفنية وليس من خارجها على اعتبار أن الرسم والشعر يستدعيان بعضهما أو كما يقول جورج براك “الشعر بالنسبة للصباغة مثل الحياة بالنسبة للإنسان”. وفي نطاق هذا التحاور والتجاور، كنت قد قدمت تجارب تشكيلية يحضر فيها الشعري بسلطته وعنفوانه، أذكر معرضي عن شعر محمود درويش سنتي 2009 و2018، كما أن العديد من الأصدقاء يكتشفون بشكل واضح التماهي التشكيلي الشعري في دواويني الشعرية، وحضور الألوان والإحالات والصور البصرية التي تكون في غالبها استئنافا لعمل المرسم.
سواء في الكتابة أو في الرسم ما يقودني هو السؤال، ذلك السؤال البسيط الذي أتتبع تفاصيله مثل ضوء منفلت. لذلك، فأنا أفكر كثيرا في القصيدة كما أفكر في اللوحة، لا أطمئن إلى الجاهز منهما، أجرّب دائما أن أخوض مغامرة جديدة، وأبحث في تجريب أشياء غير مسبوقة على الأقل بالنسبة لي، وفي ذلك متعة كبيرة وفرح طفولي ممتع.
أحد أصدقائي قال لي ذات مرة مازحا: أنت تجمع النقود من التشكيل لتصرفها في الشعر، وأعتقد أن الأمر قد يكون صحيحا في مستوى معين. غير أن خطابي التشكيلي لا ينحو إلى مخاطبة الماديات، ولا أسعى من خلاله إلى تسويق أعمالي بشكل مادي فارغ من جوهر الفن. اللوحة، في نظري، قيمتها الجمالية والروحية أهم من كل شيء، وكذلك القصيدة.

ـ لماذا اخترت التجريد تحديدًا في جل أعمالك التشكيلية؟
ـ مررت في تجربتي المتواضعة عبر مدارس متنوعة، فقد كانت البدايات واقعية صرفة، احتفيت فيها بالمشاهد التي ألتقطها في الفضاء العام، ثم القليل من السريالية مرورا بالانطباعية الشعرية. لكن هذا المسار كان دائما داخل مختبر جمالي مليء بالأسئلة، لم أستطع أن أناقشها إلا داخل مختبر تجريدي تعبيري يحتفي بالحركة والكتل اللونية التي تتراص على السند مثل كائنات حية تتعايش في عالم مختلف. داخل التجريد يوجد العالم الحقيقي، وفي التجريد ما يجعل اللوحة أكثر عمقا ونفاذا إلى الروح وردهاتها. ثم إن التجريد حين ينفتح على التأويل يأخذني إلى مفازات فلسفية عميقة تستجيب لما يسكنني ولذائقتي الجمالية وهواجسي الفكرية، كل ذلك نابع من إيماني بأن استسهال العمل الصباغي لا يصنع صباغين مهرة.
في التجربة الحديثة حاولت استدعاء الجسد بكل تفاصيله داخل عمل نصف تجريدي، ذلك حينما انتبهت إلى هذا الكائن الذي يتحرك داخل ألواني وأصباغي، وأحيانا كثيرة يحدد مساحات الفراغ والامتلاء في لوحاتي، الجسد باعتباره مساحة من الخطوط المتعرجة التي تشكل عالم كل منا وإدراكه وكينونته كحضور مادي يتحدد وجوده بالوعي والرغبة كما يعبر عن ذلك سبينوزا، الشكل الذي لا يمكن رسمه بطريقة محايدة بحيث يورطك دائما داخل دائرة من الأحاسيس الرغبات والتعبيرات المدهشة التي تجعلك في تداخل غريب بين ذاتك كرسام وموضوع اشتغالك.

الوعي الجمالي

ـ كيف تنظر إلى مسألة تلقي اللوحة التشكيلية في المغرب، علما أن البعض يتحدث عن نقص كبير في الثقافة البصرية لدى عامة الناس؟
ـ مشكل التلقي لا يوجد في المغرب وحده، بل هو واقع تتشاركه العديد من الدول التي تعيش أزماتنا نفسها. والتلقي الجمالي أمر يستند أساسا إلى بُعد ثقافي وتربوي خالص. فكلما كان الاهتمام بالتربية الجمالية داخل أولوياتنا، كانت النتيجة أكثر نجاحا. التلقي الجمالي لا يستقيم شأنه دون إحداث ثورة في الذائقة. لقد تحدث الجيل السابق من التشكيليين بالمغرب كثيرا عن إشكالية التلقي، وأعتقد أن هناك تطورا طفيفا يحصل في الواقع المغربي بالتحديد، لكنه يظل دون تطلعات المبدعين في كل المجالات، وخاصة ما يتعلق بالإبداع الجاد الذي لا ينساق وراء ما تطلبه الجماهير. لقد ظلت اللوحة وما تزال كائنا غريبا عند الكثيرين، والسبب في رأيي غياب وعي بصري وجمالي رصين يمتلك مفاتيح القراءة والتلقي والتأويل.
عندما نكفّ عن تصوير الفنان على أنه ذلك الكائن الغريب الذي يغرّد وحده في عالم من المُثل والخيالات والشطحات، وعندما نكف عن رؤية العمل الفني ضربا من الترف المجاني أو في أحسن الحالات مادة لجلب المال وإنماء الأرصدة، وبالتالي لا يصنع إلى جانب مجالات أخرى نهضة مجتمع، عندما يتحقق ذلك فإن وعيا جادا سينتشر، وسيرقى الذوق الجمالي بذلك، ويكتسب العمل الفني والفنان الصيغة الاعتبارية التي يستحق، وقبل هذا كله سنجد حلولا للكثير من المشاكل والأمراض التي تتخبط فيها مجتمعاتنا الشقية. يقول ألكسندر إليوت “إذا ما فقد الإنسان طريق الجمال مرض، لقد كان الغرض الأول من الفن البدائي أن يسعف الإنسان في شفاء مثل هذا المرض، بل إن ميزة الشفاء هذه هي قاعدة الفن كله.”

ـ إلى أي حد أنصف النقد أعمالك الإبداعية، شعرا وتشكيلا؟
ـ بيني وبين النقد عتابات كثيرة، بعضها يخصني بشكل مباشر وبعضها بشكل غير مباشر، لكنه يعنيني على كل حال. إذا تحدثنا عن النقد خصوصا داخل المغرب فإنني أكاد أجزم أننا نتحدث عن أمر يكاد يكون غائبا، وعن حلقة شبه مفقودة في المنظومة الثقافية عموما. صحيح أن المغاربة عرفوا فاعليتهم في المجال النقدي ومنجزهم يؤكد ذلك، لكن في مواكبة المنجز الجديد في مجالات الإبداع الكثيرة يكمن الخلل. مع ذلك، هناك أقلام عددها أقل من أصابع اليد الواحدة تحاول تتبع حركية المنجز التشكيلي في المغرب.
في الشعر أيضا هناك نقص حاد، بحيث يعجز النقد عن مواكبة جديد الساحة الشعرية التي تعرف في كل سنة صدور عدد ليس بالهين من الدواوين والمجاميع الشعرية. أعتقد أن النقد الذي لا يصنع نقاشا فعالا ولا رؤية طليعية يعاني من عطب ما. أما عن سؤال: هل أنصفني النقد أم لا؟ فأعتقد أنني أقول كلمتي وأمضي، ولا أنتظر مَن يكتب عمّا أنجز تشكيليا أو شعريا، ولعل هذا ناتج أساسا عن أمرين، الأول عن قناعة ذاتية بأن مهمة الإبداع هي رص الطريق وفتح الأفاق البعيدة، وبعد ذلك قد يأتي النقد وقد لا يأتي. الأمر الثاني هو ما يشبه فقدان ثقة أو ربما خيبة أمل قديمة لازمتني منذ بداية اشتغالي الإبداعي، أعتقد أن كثيرا من أعمالي لاقت اهتماما من أجانب، وكتبوا عنها وتداولوا نشرها في مجلات أو مواقع، وكان ذلك بالنسبة لي مدعاة فرح وفخر وغبن أيضا، حين أجد أن النقد في أوطاننا يتخلى عن مكانته الطبيعية، وإن تحدث عن مشروع فني شعري أو تشكيلي، فإنما يتناوله بطريقة الوجبات السريعة أو انطلاقا من إخوانيات تحضر فيها الكثير من المجاملات والصداقات النفعية.

– رؤيتك لواقع ومنجز الخطاب التشكيلي في المغرب؟
ـ أعتقد أن الخطاب التشكيلي في المغرب قد قطع مسارا مهما في إطار تأسيس ذاته مع العلم أنه لا يزال في بدايته، فلا يمكن الحديث عن التشكيل في المغرب إلا من داخل مسافة زمنية تفوق نصف قرن بقليل، وبالتالي فما أنجزه هذا الخطاب إلى حد الآن يعتبر حصيلة مهمة. هناك في المغرب حساسية تشكيلية جديدة واعية بشرطها الزمني والإبداعي، تناقش إبداعها من منطلقات معرفية يحكمها التجريب، هذه الحساسية لم تظل حبيسة المنطق الجغرافي ولا الثقافي الضيق، بل شكلت حوارا بناء وتجاوبا مع المنجز البصري على الصعيد الكوني. وبالتالي صار العديد من المهتمين بالفن خارج المغرب يتابعون المنجز الصباغي الجديد، وقد لعبت منصات التواصل الاجتماعي دورا مهما في إثارة الانتباه إلى الخطاب التشكيلي الجديد بالمغرب، فحظيت بعض التجارب باهتمام ومتابعة من المغرب والمشرق أيضا. ضف إلى ذلك حضور الفنانين المغاربة في الملتقيات و”السمبوزيومات” الدولية، مما شكل نقطة ضوء. على المستوى الشخصي أحاول دائما الحضور خارج المغرب وفتح أفق كوني لانتشار أعمالي، توج ذلك بدخول بعضها في مزادات علنية عالمية مؤخرا، كما هو الشأن بالنسبة لفنانين مغاربة آخرين.

– حصلت منذ بضعة شهور على الجائزة الأولى لبينالي الفنانين العرب في الكويت، ما وقع هذه الجائزة على نفسيتك؟
ـ إنها لحظة فارقة في حياتي الفنية، أن أجد احتفاء بأعمالي لدى أشقاء وفنانين يقاسمونني نفس الأسئلة ونفس الأفق، فكانت جائزة بينالي سعاد الصباح للفنانين العرب، بمثابة فوز اعتباري كبير، سعدت به كثيرا وأعطتني فيما بعد شحنة معنوية للمزيد من البحث والاجتهاد. أتمنى من خالص قلبي أن تكثر مثل هذه المبادرات، وأن يتم الاحتفاء بالفنان وتقديره، لأنه لا يحتاج أكثر من ذلك. كنت سابقا قد فزت بجائزتين على مستوى الشعر في المغرب، وأجد أن التفكير في الجوائز أمر مهم للغاية، لكن لا يجب في نظري أن يصير هاجسا، لأن الإبداع أكبر من أن يكون خاضعا لشرط جائزة ما، ذلك أن أفقه كوني إنساني، وما الجائزة إلا محطة فرح واعتراف داخل مسار طويل.

ـ ما جديدك الإبداعي؟
ـ أشتغل بشكل يومي تقريبا، أحيانا في مخبر القصيدة وأحيانا أخرى في فضاء المرسم. أحضر أعمالا جديدة فيها غير قليل من التجريب والمغامرة، لأنني أؤمن أن على الفنان أن لا يطمئن أبدا لعمله وأن لا يكف عن نقد ذاته وتجديد خطاباته وأدواته البصرية. حاليا، أنا في غمار تجربة تشكيلية جديدة، أحاول من خلالها أن أتخلص من الكثير من الكلام لصالح اختزال وتقشف على مستوى اللون والمادة. وأجد أن هذا أفقٌ مثالي لتحرير لوحتي من ضغوطاتها والسفر بها نحو عالم تنتصر فيه الحكمة وتضيق العبارات، مثلما يقول الفنان كيفن فينكليا Kevin Finklea: “أعتقد أنه بعد 30 عامًا من الصّباغة، ستدرك أنّ أبسط إشارة أحيانًا هي الأفضل أو الأكثر ملائمة “.
لدي معرضان في نهاية السنة في الرباط ومراكش، وآخران أحضّر لهما في الإمارات العربية المتحدة وفرنسا، وبعض المشاريع الفنية رفقة صديقي الفنانين الرائعين عزيز أزغاي وعبد الله الهيطوط . كما أنني أنهيت مؤخرا آخر لمسات ديواني الشعري الجديد، وهو الآن بيد الناشر وسيصدر قريبا جدا.
الطاهر الطويل

ذات صلة